سورة الكهف - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


الظرف في قوله: {وَإِذْ قَالَ} متعلق بفعل محذوف هو أذكر. قيل: ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة: أن اليهود لما سألوا النبيّ عن قصة أصحاب الكهف وقالوا: إن أخبركم فهو نبيّ وإلا فلا. ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبيّ لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار.
وقد اتفق أهل العلم على أن موسى المذكور هو موسى بن عمران النبيّ المرسل إلى فرعون، وقالت فرقة لا التفات إلى ما تقوله منهم نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران، وإنما هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب، وكان نبياً قبل موسى بن عمران، وهذا باطل قد ردّه السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم كما في صحيح البخاري وغيره، والمراد بفتاه هنا هو: يوشع بن نون. قال الواحدي: أجمعوا على أنه يوشع بن نون، وقد مضى ذكره في المائدة، وفي آخر سورة يوسف، ومن قال: إن موسى هو ابن ميشى قال: إن هذا الفتى لم يكن هو يوشع بن نون. قال الفراء: وإنما سمي فتى موسى لأنه كان ملازماً له يأخذ عنه العلم ويخدمه، ومعنى {لا أَبْرَحُ} لا أزال، ومنه قوله: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين} [طه: 91]. ومنه قول الشاعر:
وأبرح ما أدام الله قومي *** بحمد الله منتطقاً مجيداً
وبرح إذا كان بمعنى زال فهو من الأفعال الناقصة، وخبره هنا محذوف اعتماداً على دلالة ما بعده وهو {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} قال الزجاج: لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله: {حتى أَبْلُغَ} غاية مضروبة، فلا بدّ لها من ذي غاية، فالمعنى: لا أزال أسير إلى أن أبلغ، ويجوز أن يراد: لا يبرح مسيري حتى أبلغ، وقيل: معنى {لا أبرح}: لا أفارقك حتى أبلغ مجمع البحرين، وقيل: يجوز أن يكون من برح التام، بمعنى: زال يزال، ومجمع البحرين: ملتقاهما. قيل: المراد بالبحرين: بحر فارس والروم؛ وقيل: بحر الأردن وبحر القلزم، وقيل: مجمع البحرين عند طنجة، وقيل: بإفريقية. وقالت طائفة: المراد بالبحرين موسى والخضر، وهو من الضعف بمكان.
وقد حكي عن ابن عباس ولا يصح. {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} أي: أسير زماناً طويلاً. قال الجوهري: الحقب بالضم: ثمانون سنة.
وقال النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة: زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطاً وقوماً منهم غير محدود، وجمعه أحقاب. وسبب هذه العزيمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؟ فقال: أنا، فأوحى الله إليه: إنّ أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين.
{فَلَمَّا بَلَغَا} أي: موسى وفتاه {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي: بين البحرين، وأضيف مجمع إلى الظرف توسعاً وقيل: البين: بمعنى الافتراق أي: البحران المفترقان يجتمعان هناك، وقيل: الضمير لموسى والخضر، أي: وصلا الموضع الذي فيه اجتماع شملهما، ويكون البين على هذا بمعنى الوصل، لأنه من الأضداد، والأوّل أولى {نَسِيَا حُوتَهُمَا} قال المفسرون: إنهما تزوّدا حوتاً مملحاً في زنبيل، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام، وكان قد جعل الله فقدانه أمارة لهما على وجدان المطلوب. والمعنى أنهما نسيا بفقد أمره، وقيل: الذي نسي إنما هو فتى موسى، لأنه وكل أمر الحوت إليه، وأمره أن يخبره إذا فقده، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه الحوت فأحياه الله، فتحرّك واضطرب في المكتل، ثم انسرب في البحر، ولهذا قال: {فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً} انتصاب {سرباً} على أنه المفعول الثاني لاتخذ، أي اتخذ سبيلاً سرباً، والسرب: النفق الذي يكون في الأرض للضبّ ونحوه من الحيوانات، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق، فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجياب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوّة المحفورة في الأرض. قال الفراء: لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة وذهب الحوت فيه انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال، ولم يجدا النصب حتى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر، ولهذا قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاوَزَا} أي: مجمع البحرين الذي جعل موعداً للملاقاة {قَالَ لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا} وهو ما يؤكل بالغداة، وأراد موسى أن يأتيه بالحوت الذي حملاه معهما {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً} أي: تعباً وإعياء، قال المفسرون: الإشارة بقوله: {سفرنا هذا} إلى السفر الكائن منهما بعد مجاوزة المكان المذكور، فإنهما لم يجدا النصب إلا في ذلك دون ما قبله {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة} أي: قال فتى موسى لموسى، ومعنى الاستفهام: تعجيبه لموسى مما وقع له من النسيان هناك مع كون ذلك الأمر مما لا ينسى، لأنه قد شاهد أمراً عظيماً من قدرة الله الباهرة، ومفعول {أرأيت} محذوف لدلالة ما ذكره من النسيان عليه، والتقدير: أرأيت ما دهاني، أو نابني في ذلك الوقت والمكان. وتلك الصخرة كانت عند مجمع البحرين الذي هو الموعد، وإنما ذكرها دون أن يذكر مجمع البحرين لكونها متضمنة لزيادة تعيين المكان، لاحتمال أن يكون المجمع مكاناً متسعاً يتناول مكان الصخرة وغيره، وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدّم ذكره لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زاداً لهما، وأمارة لوجدان مطلوبهما. ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} بما يقع منه من الوسوسة، و{أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه، وفي مصحف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان {واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا} انتصاب {عجباً} على أنه المفعول الثاني كما مرّ في {سرباً}، والظرف في محل نصب على الحال، يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع، أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجباً للناس، وموضع التعجب: أن يحيا حوت قد مات وأكل شقه، ثم يثب إلى البحر ويبقى أثر جريته في الماء لا يمحو أثرها جريان ماء البحر، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه لبيان طرف آخر من أمر الحوت، فيكون ما بين الكلامين اعتراضاً.
{قَالَ ذلك مَا كُنَّا نبغ} أي، قال موسى لفتاه: ذلك الذي ذكرت من فقد الحوت في ذلك الموضع هو الذي كنا نطلبه، فإن الرجل الذي نريده هو هنالك {فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا} أي: رجعا على الطريق التي جاءا منها يقصان أثرهما لئلا يخطئا طريقهما، وانتصاب {قصصاً} على أنه مصدر لفعل محذوف، أو على الحال، أي: قاصين أو مقتصين، والقصص في اللغة اتباع الأثر {فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا} هو الخضر في قول جمهور المفسرين، وعلى ذلك دلت الأحاديث الصحيحة، وخالف في ذلك من لا يعتدّ بقوله، فقال: ليس هو الخضر بل عالم آخر؛ قيل: سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما حوله، قيل واسمه بليا بن ملكان. ثم وصفه الله سبحانه فقال: {آتيناه رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} قيل: الرحمة هي النبوّة، وقيل: النعمة التي أنعم الله بها عليه {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} وهو ما علمه الله سبحانه من علم الغيب الذي استأثر به، وفي قوله: {من لدنا} تفخيم لشأن ذلك العلم، وتعظيم له. قال الزجاج: وفيما فعل موسى وهو من جملة الأنبياء من طلب العلم، والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه. ثم قصّ الله سبحانه علينا ما دار بين موسى والخضر بعد اجتماعهما فقال: {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً} في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في حسن الأدب، لأنه استأذنه أن يكون تابعاً له على أن يعلمه مما علمه الله من العلم. والرشد الوقوف على الخير وإصابة الصواب، وانتصابه على أنه مفعول ثانٍ ل {تعلمني} أي: علماً ذا رشد أرشد به، وقرئ: {رشداً} بفتحتين، وهما لغتان كالبخل والبخل. وفي الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن.
{قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} أي: قال الخضر لموسى: إنك لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي، لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك، ثم أكد ذلك مشيراً إلى علة عدم الاستطاعة، فقال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} أي: كيف تصبر على علم ظاهره منكر، وأنت لا تعلم، ومثلك مع كونك صاحب شرع لا يسوغ له السكوت على منكر والإقرار عليه، و{خبراً} منتصب على التمييز، أي: لم تحط به خبرك، والخبر: العلم بالشيء، والخبير بالأمور هو: العالم بخفاياها، وبما يحتاج إلى الاختبار منها. {قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا} أي: قال موسى للخضر: ستجدني صابراً معك، ملتزماً طاعتك {وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً} فجملة: {ولا أعصي} معطوفة على {صابراً}، فيكون التقييد بقوله: {إن شاء الله} شاملاً للصبر ونفي المعصية، وقيل: إن التقييد بالمشيئة مختص بالصبر، لأنه أمر مستقبل لا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه في الحال، ويجاب عنه بأن الصبر، ونفي المعصية متفقان في كون كل واحد منهما معزوم عليه في الحال، وفي كون كل واحد منهما لا يدري كيف حاله فيه في المستقبل. {قَالَ فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَئ} مما تشاهده من أفعالي المخالفة لما يقتضيه ظاهر الشرع الذي بعثك الله به {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي: حتى أكون أنا المبتدئ لك بذكره، وبيان وجهه وما يئول إليه، وهذه الجمل المعنونة بقال وقال مستأنفة، لأنها جوابات عن سؤالات مقدّرة كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها.
وقد أخرج الدارقطني في الإفراد، وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال.
وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عباس.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن مجاهد: إنما سمي الخضر لأنه إذا صلى اخضرّ ما حوله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله: {لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} قال: حتى أنتهي.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {مَجْمَعَ البحرين} قال: بحر فارس والروم، وهما نحو المشرق والمغرب.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس مثله.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبيّ بن كعب قال: {مَجْمَعَ البحرين} إفريقية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب قال: طنجة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} قال: سبعين خريفاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: دهراً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} قال: كان مملوحاً مشقوق البطن.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً} قال: أثره يابس في البحر كأنه في حجر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا} قال: عودهما على بدئهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} قال: أعطيناه الهدى والنبوّة.
واعلم أنها قد رويت في قصة الخضر مع موسى المذكورة في الكتاب العزيز أحاديث كثيرة، وأتمها وأكملها ما روي عن ابن عباس ولكنها اختلفت بعض الألفاظ، وكلها مروية من طريق سعيد بن جبير عنه، وبعضها في الصحيحين وغيرهما، وبعضها في أحدهما، وبعضها خارج عنهما.
وقد رويت من طريق العوفي عنه كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، ومن طريق هارون بن عنترة، عن أبيه، عنه عند ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب، وابن عساكر، فلنقتصر على الرواية التي هي أتمّ الروايات الثابتة في الصحيحين، ففي ذلك ما يغني عن غيره، وهي: قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدوّ الله. حدّثنا أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل. فسئل أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل. ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه: {آتنا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً} قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة فَإِنّى نَسِيتُ الحوت وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا} قال: فكان للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، فقال موسى: {ذلك مَا كُنَّا فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا}» قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها ميتاً إلا عاش، قال: وكان الحوت قد أكل منه.
فلما قطر عليه الماء عاش، قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنيّ بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى. قال: موسى نبي إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: {إنك لن تستطيع معي صبراً} يا موسى، إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك الله لا أعلمه، قال موسى: {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} فقال له الخضر: {فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَئ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرّت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها {لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمراً قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً}. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكانت الأولى من موسى نسياناً». قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} قال: وهذه أشدّ من الأولى {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعما أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} قال: مائل، فقال الخضر بيده هكذا فأقامه، فقال موسى: قوم آتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وددنا أن موسى كان صبر حتى يقصّ الله علينا من خبرهما». قال سعيد بن جبير: وكان ابن عباس يقرأ: {وَكَانَ أمامهم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وكان يقرأ: {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ كافراً وكان أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} وبقية روايات سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب هي موافقة لهذه الرواية في المعنى وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها فلا فائدة في الإطالة بذكرها، وكذلك روايات غير سعيد عنه.


قوله: {فانطلقا} أي: موسى والخضر على ساحل البحر يطلبان السفينة، فمرّت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فحملوهم {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا} قيل: قلع لوحاً من ألواحها، وقيل: لوحين مما يلي الماء، وقيل: خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها {قَالَ} موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي: لقد أتيت أمراً عظيماً، يقال: أمر الأمر إذا كبر، والأمر الاسم منه.
وقال أبو عبيدة: الأمر: الداهية العظيمة وأنشد:
قد لقي الأقران مني نكرا *** داهية دهياً وأمراً إمرا
وقال القتيبي: الأمر العجب.
وقال الأخفش: أمر أمره يأمر إذا اشتد، والاسم الأمر. قرأ حمزة والكسائي {ليغرق أهلها} بالياء التحتية المفتوحة، ورفع {أهلها} على أنه فاعل، وقرأ الباقون بالفوقية المضمومة ونصب {أهلها} على المفعولية {قَالَ} أي: الخضر {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} أذكره ما تقدم من قوله له سابقاً {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} [الكهف: 67] ف {قَالَ} له موسى {لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} يحتمل أن تكون {ما} مصدرية، أي: لا تؤاخذني بنسياني أو موصولة، أي: لا تؤاخذني بالذي نسيته، وهو قول الخضر {فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَئ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} فالنسيان إما على حقيقته على تقدير أن موسى نسي ذلك، أو بمعنى: الترك على تقدير أنه لم ينس ما قاله له، ولكنه ترك العمل به {وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً} قال أبو زيد: أرهقته عسراً إذا كلفته ذلك، والمعنى: عاملني باليسر لا بالعسر. وقرئ: {عسراً} بضمتين. {فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} أي: الخضر، ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير، قيل: كان الغلام يلعب مع الصبيان فاقتلع الخضر رأسه {قَالَ} موسى {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زكية بِغَيْرِ نَفْسٍ} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأويس بألف بعد الزاي وتخفيف الياء اسم فاعل. وقرأ الباقون بتشديد الياء من دون ألف، الزاكية: البريئة من الذنوب. قال أبو عمرو: الزاكية: التي لم تذنب، والزكية: التي أذنبت ثم تابت.
وقال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان.
وقال الفراء: الزاكية والزكية: مثل القاسية والقسية، ومعنى {بِغَيْرِ نَفْسٍ}: بغير قتل نفس محرّمة حتى يكون قتل هذه قصاصاً {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} أي: فظيعاً منكراً لا يعرف في الشرع. قيل: معناه: أنكر من الأمر الأوّل لكون القتل لا يمكن تداركه، بخلاف نزع اللوح من السفينة فإنه يمكن تداركه بإرجاعه، وقيل: النكر أقلّ من الإمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.
قيل: استبعد موسى أن يقتل نفساً بغير نفس، ولم يتأول للخضر بأنه يحلّ القتل بأسباب أخرى {قَالَ} الخضر {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} زاد هنا لفظ {لك}، لأن سبب العتاب أكثر، وموجبه أقوى، وقيل: زاد لفظ {لك} لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه: لك أقول وإياك أعني {قَالَ} موسى {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا} أي: بعد هذه المرة، أو بعد هذه النفس المقتولة {فَلاَ تُصَاحِبْنِى} أي: لا تجعلني صاحباً لك، نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره، ولذا قال: {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً} يريد أنك قد أعذرت حيث خالفتك ثلاث مرّات، وهذا كلام نادم شديد الندامة، اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف. قرأ الأعرج {تصحبني} بفتح التاء والباء وتشديد النون. وقرأ الجمهور {تصاحبني} وقرأ يعقوب {تصحبني} بضم التاء وكسر الحاء، ورواها سهل عن أبي عمرو. قال الكسائي: معناه لا تتركني أصحبك. وقرأ الجمهور {لدني} بضم الدال إلا أن نافعاً وعاصماً خففا النون، وشددها الباقون. وقرأ أبو بكر عن عاصم {لدني} بضم اللام وسكون الدال. قال ابن مجاهد: وهي غلط. قال أبو عليّ: هذا التغليط لعله من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فصحيحة. وقرأ الجمهور {عذراً} بسكون الذال. وقرأ عيسى بن عمر بضم الذال.
وحكى الداني أن أبيا روى عن النبيّ بكسر الراء وياء بعدها بإضافة العذر إلى نفسه. {فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} قيل: هي أيلة؛ وقيل: أنطاكية؛ وقيل: برقة؛ وقيل: قرية من قرى أذربيجان؛ وقيل: قرية من قرى الروم {استطعما أَهْلَهَا} هذه الجملة في محل الجر على أنها صفة لقرية، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التأكيد، أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة لما فيه من الكلفة، أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا} أي: أبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من ضيافتهما، فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال وحلّ الكدية فقد أخطأ خطأً بيناً، ومن ذلك قول بعض الأدباء الذين يسألون الناس:
فإن رددت فما في الرد منقصة *** عليّ قد ردّ موسى قبل والخضر
وقد ثبت في السنّة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة {فَوَجَدَا فِيهَا} أي: في القرية {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} إسناد الإرادة إلى الجدار مجاز. قال الزجاج: الجدار لا يريد إرادة حقيقية إلا أن هيئة السقوط قد ظهرت فيه كما تظهر أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإرادة، ومنه قول الراعي:
في مهمه فلقت به هاماتها *** فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
ومعنى الانقضاض: السقوط بسرعة، يقال: انقضّ الحائط إذا وقع، وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء، ومعنى {فأقامه}: فسوّاه، لأنه وجده مائلاً فردّه كما كان؛ وقيل: نقضه وبناه؛ وقيل: أقامه بعمود.
وقد تقدّم في الحديث الصحيح أنه مسحه بيده {قَالَ} موسى {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي: على إقامته وإصلاحه، تحريضاً من موسى للخضر على أخذ الأجر. قال الفراء: معناه لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو الأجر، قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وابن كثير، وابن محيصن، واليزيدي، والحسن {لتخذت} يقال: تخذ فلان يتخذ تخذاً مثل: اتخذ. وقرأ الباقون {لاتخذت}. {قَالَ} الخضر {هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} على إضافة {فراق} إلى الظرف اتساعاً، أي: هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر هو المفرق بيننا. قال الزجاج: المعنى: هذا فراق بيننا، أي: هذا فراق اتصالنا، وكرّر {بين} تأكيداً، ولما قال الخضر لموسى بهذا، أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى فقال: {سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} والتأويل: رجوع الشيء إلى مآله. ثم شرع في البيان له فقال: {أَمَّا السفينة} يعني: التي خرقها {فَكَانَتْ لمساكين} لضعفاء لا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم {يَعْمَلُونَ فِى البحر} ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذين يركبون البحر ويأخذون الأجرة، وقد استدل الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أي: أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها {وَكَانَ ورائهم ملك} قال المفسرون: يعني أمامهم، ووراء يكون بمعنى: أمام، وقد مرّ الكلام على هذا في قوله: {وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17]. وقيل: أراد خلفهم، وكان طريقهم في الرجوع عليه، وما كان عندهم خبر بأنه {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي: كل سفينة صالحة لا معيبة، وقد قرئ بزيادة {صالحة}، روي ذلك عن أبيّ وابن عباس. وقرأ جماعة بتشديد السين من مساكين، واختلف في معناها، فقيل: هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك السفينة، والأظهر قراءة الجمهور بالتخفيف. {وَأَمَّا الغلام} يعني: الذي قتله {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} أي: ولم يكن هو كذلك {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} أي: يرهق الغلام أبويه، يقال: رهقه أي: غشيه، وأرهقه أغشاه. قال المفسرون: معناه خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه في دينه، وهو الكفر، و{طُغْيَانًا} مفعول يرهقهما {وَكُفْراً} معطوف عليه، وقيل: المعنى: فخشينا أن يرهق الوالدين طغياناً عليهما وكفراً لنعمتهما بعقوقه. قيل: ويجوز أن يكون {فخشينا} من كلام الله، ويكون المعنى: كرهنا كراهة من خشي سوء عاقبة أمره فغيره، وهذا ضعيف جدّاً، فالكلام كلام الخضر.
وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلة، فقيل: إنه كان بالغاً وقد استحق ذلك بكفره؛ وقيل: كان يقطع الطريق فاستحق القتل لذلك، ويكون معنى {فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً}: أن الخضر خاف على الأبوين أن يذبا عنه ويتعصبا له فيقعا في المعصية، وقد يؤدّي ذلك إلى الكفر والارتداد.
والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغاً كافراً أو قاطعاً للطريق هذا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوّغ له ذلك، وأما إذا كان الغلام صبياً غير بالغ، فقيل: إن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغاً لكان كافراً يتسبب عن كفره إضلال أبويه وكفرهما، وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه، فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحلّ في الشريعة المحمدية، ولكنه حلّ في شريعة أخرى، فلا إشكال.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الخضر كان نبياً {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ} قرأ الجمهور بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال. وقرأ عاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بسكون الباء وتخفيف الدال، والمعنى: أردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولداً خيراً منه {زكواة} أي: ديناً وصلاحاً وطهارة من الذنوب {وَأَقْرَبَ رُحْماً} قرأ ابن عباس، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وابن عامر {رحماً} بضم الحاء. وقرأ الباقون بسكونها، ومعنى الرحم: الرحمة، يقال: رحمه الله رحمة ورحمى، والألف للتأنيث. {وَأَمَّا الجدار} يعني: الذي أصلحه {فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِى المدينة} هي القرية المذكورة سابقاً، وفيه جواز إطلاق اسم المدينة على القرية لغة {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} قيل: كان مالاً جسيماً كما يفيده اسم الكنز، إذ هو المال المجموع. قال الزجاج: المعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد فمعناه: المال المدفون، فإذا لم يكن مالاً قيل: كنز علم وكنز فهم؛ وقيل: لوح من ذهب، وقيل: صحف مكتوبة {وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا} فكان صلاحه مقتضياً لرعاية ولديه وحفظ مالهما، قيل: هو الذي دفنه؛ وقيل: هو الأب السابع من عند الدافن له، وقيل: العاشر {فَأَرَادَ رَبُّكَ} أي: مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفاً له {أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} أي: كمالهما وتمام نموّهما {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، ولو انقضّ لخرج الكنز من تحته {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} لهما، وهو مصدر في موضع الحال أي: مرحومين من الله سبحانه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} أي: عن اجتهادي ورأيي، وهو تأكيد لما قبله، فقد علم بقوله فأراد ربك أنه لم يفعله الخضر عن أمر نفسه {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أي: ذلك المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك وأوضحت وجوهها تأويل ما ضاق صبرك عنه ولم تطق السكوت عليه، ومعنى التأويل هنا: هو المآل الذي آلت إليه تلك الأمور، وهو اتضاح ما كان مشتبهاً على موسى وظهور وجهه، وحذف التاء من {تسطع} تخفيفاً.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} يقول: نكراً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {إِمْراً} قال: عجباً.
وأخرج ابن جرير، عن أبيّ بن كعب في قوله: {لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} قال: لم ينس، ولكنها من معاريض الكلام.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: كان الخضر عبداً لا تراه الأعين، إلا من أراد الله أن يريه إياه، فلم يره من القوم إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وبين قتل الغلام. وأقول: ينبغي أن ينظر من أين له هذا؟ فإن لم يكن مستنده إلا قوله: ولو رآه القوم إلخ، فليس ذلك بموجب لما ذكره، أما أوّلاً: فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن يراه أهل السفينة وأهل الغلام، لا لكونه لا تراه الأعين، بل لكونه فعل ذلك من غير اطلاعهم. وأما ثانياً: فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا بأمر من الله كما يفعل الأنبياء، فسلموا لأمر الله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {نَفْساً زكية} قال: مسلمة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، قال: لم تبلغ الخطايا.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن الحسن نحوه.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {شَيْئاً نُّكْراً} قال: النكر أنكر من العجب.
وأخرج أحمد، عن عطاء قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان، فكتب إليه: إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم. وزاد ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه: ولكنك لا تعلم، قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم فاعتزلهم.
وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن مردويه، عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً».
وأخرج أبو داود، والترمذي، وعبد الله بن أحمد والبزار، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، عن أبيّ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: {مِن لَّدُنّى عُذْراً} مثقلة.
وأخرج ابن مردويه عن أبيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: {أَن يُضَيّفُوهُمَا} مشدّدة.
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فهدمه ثم قعد يبنيه} قلت: ورواية الصحيحين التي قدّمناها أنه مسحه بيده أولى.
وأخرج الفريابي في معجمه، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: {لَوْ شِئْتَ لتخذت عَلَيْهِ أَجْر} مخففة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحمة الله علينا وعلى موسى. لو صبر لقصّ الله علينا من خبره، ولكن قَال: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى}».
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {وَكَانَ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}.
وأخرج ابن الأنباري، عن أبيّ بن كعب أنه قرأها كذلك.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، عن أبي الزاهرية قال: كتب عثمان {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً}.
وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: هي في مصحف عبد الله {فخاف ربك أن يرهقهما طغياناً وكفراً}.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {خَيْراً مّنْهُ زكواة} قال: ديناً {وَأَقْرَبَ رُحْماً} قال: مودّة، فأبدلا جارية ولدت نبياً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} قال: كان الكنز لمن قبلنا وحرّم علينا، وحرّمت الغنيمة على من كان قبلنا وأحلت لنا، فلا يعجبنّ الرجل، فيقول: فما شأن الكنز، أحلّ لمن قبلنا وحرّم علينا؟ فإن الله يحلّ من أمره ما يشاء ويحرّم ما يشاء، وهي السنن والفرائض، يحلّ لأمة ويحرّم على أخرى.
وأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} قال: «ذهب وفضة».
وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} قال: أحلت لهم الكنوز وحرّمت عليهم الغنائم، وأحلّت لنا الغنائم وحرّمت علينا الكنوز.
وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي ذر رفعه قال: إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي نحو هذا روايات كثيرة لا تتعلق بذكرها فائدة.
وأخرج ابن المبارك، وسعيد بن منصور، وأحمد في الزهد، والحميدي في مسنده، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا} قال: حفظاً بصلاح أبيهما.
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزّ وجلّ يصلح بصلاح الرجل الصالح، ولده، وولد ولده، وأهل دويرته وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده، وولد ولده، ويحفظه في دويرته، والدويرات حوله، فما يزالون في ستر من الله وعافية.
وأخرج ابن جرير من طريق الحسن بن عمارة عن أبيه قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال ابن عباس: قال فيما يذكر من حديث الفتى: إنه شرب من الماء فخلد، فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه. قال ابن كثير: إسناده ضعيف، الحسن متروك وأبوه غير معروف.


لما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود، وانتهى الكلام إلى حيث انتهى شرع سبحانه في السؤال الثالث والجواب عنه، فالمراد بالسائلين هنا هم اليهود.
واختلفوا في ذي القرنين اختلافاً كثيراً، فقيل: هو الإسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا بأسرها اليوناني باني الإسكندرية.
وقال ابن إسحاق: هو رجل من أهل مصر، اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني، من ولد يونان بن يافث بن نوح؛ وقيل: هو ملك اسمه هرمس؛ وقيل: ملك اسمه هردبس؛ وقيل: شاب من الروم، وقيل: كان نبياً، وقيل: كان عبداً صالحاً وقيل: اسمه عبد الله بن الضحاك؛ وقيل: مصعب بن عبد الله، من أولاد كهلان بن سبأ.
وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال: إن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان: أحدهما: كان على عهد إبراهيم عليه السلام. والآخر: كان قريباً من عيسى عليه السلام؛ وقيل: هو أبو كرب الحميري؛ وقيل: هو ملك من الملائكة، ورجح الرازي القول الأوّل، قال: لأن من بلغ ملكه من السعة والقوّة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الإسكندر اليوناني كما تشهد به كتب التاريح؛ قال: فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر، قال: وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس الحكيم، وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق، وذلك مما لا سبيل إليه. قال النيسابوري: قلت: ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر والله أعلم.
ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي أنهما اثنان كما قدّمنا ذلك، وبين أن الأوّل: طاف بالبيت مع إبراهيم أوّل ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر. وأما الثاني: فهو الإسكندر المقدوني اليوناني، وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس، وكان قبل المسيح بنحو من ثلثمائة سنة. فأما الأوّل المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راوياً له عن الأزرقي وغيره؛ ثم قال: وقد ذكرنا طرفاً صالحاً في أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية.
وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال: وإنما بينا هذا يعني: أنهما اثنان، لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر، فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثير، كيف لا، والأوّل: كان عبداً صالحاً مؤمناً، وملكاً عادلاً، ووزيره الخضر، وقد قيل: إنه كان نبياً، وأما الثاني: فقد كان كافراً، ووزيره إرسطاطاليس الفيلسوف، وكان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذاك؟ انتهى. قلت: لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقاً، وسماه بالبداية والنهاية ولم يقف عليه، والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما اثنان، كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم لا كما ذكره الرازي وادّعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ، وقد وقع الخلاف هل هو نبيّ أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب آخر هذا البحث إن شاء الله.
وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين، فقال الزجاج والأزهري: إنما سمي ذا القرنين، لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها، وقرن الشمس من مغربها؛ وقيل: إنه كان له ضفيرتان من شعر، والضفائر تسمى قروناً، ومنه قول الشاعر:
فلثمت فاها آخذاً بقرونها *** شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
والحشرج: ماء من مياه العرب؛ وقيل: إنه رأى في أوّل ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك، وقيل: كان له قرنان تحت عمامته؛ وقيل: إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه، ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر، وقيل: إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حيّ، وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعاً، وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر والباطن، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: لأنه ملك الروم والترك، وقيل: لأنه كان لتاجه قرنان. قوله: {قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً} أي: سأتلو عليكم أيها السائلون من ذي القرنين خبراً. وذلك بطريق الوحي المتلوّ. ثم شرع سبحانه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكراً فقال: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض} أي: أقدرناه بما مهدنا له من الأسباب، فجعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فيها، وسهلّ عليه المسير في مواضعها، وذللّ له طرقها حتى تمكن منها أين شاء وكيف شاء؟ ومن جملة تمكينه فيها أنه جعل له الليل والنهار سواء في الإضاءة {وآتيناه مِن كُلّ شَئ} مما يتعلق بمطلوبه {سَبَباً} أي: طريقاً يتوصل بها إلى ما يريده {فَأَتْبَعَ سَبَباً} من تلك الأسباب. قال المفسرون: والمعنى طريقاً تؤديه إلى مغرب الشمس. قال الزجاج: فأتبع سبباً من الأسباب التي أوتي، وذلك أنه أوتي من كل شيء سبباً فأتبع من تلك الأسباب التي أوتي سبباً في المسير إلى المغرب، وقيل: أتبع من كل شيء علماً يتسبب به إلى ما يريد؛ وقيل: بلاغاً إلى حيث أراد؛ وقيل: من كل شيء يحتاج إليه الخلق؛ وقيل: من كل شيء تستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب: الحبل، فاستعين لكل ما يتوصل به إلى شيء. قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة، وعاصم، وحمزة، والكسائي {وأتبع} بقطع الهمزة، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وأبو عمرو بوصلها.
قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى. مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]. قال النحاس: واختار أبو عبيدة قراءة أهل الكوفة، قال: لأنها من السير.
وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعته وأتبعته إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه. قال أبو عبيدة: ومثله {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ}. قال النحاس: وهذا من الفرق وإن كان الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلم أو دليل، وقوله عزّ وجلّ: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه في البحر انطبق عليهم البحر. والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهو بمعنى: السير. {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} أي: نهاية الأرض من جهة المغرب، لأن من وراء هذه النهاية البحر المحيط، وهو لا يمكن المضيّ فيه {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي {حامية}: أي: حارّة. وقرأ الباقون {حمئة} أي: كثيرة الحمأة، وهي الطينة السوداء، تقول: حمئت البئر حمأ بالتسكين: إذا نزعت حمأتها، وحمأت البئر حمأتها بالتحريك: كثرت حمأتها، ويجوز أن تكون حامية من الحمأة، فخففت الهمزة وقلبت ياء، وقد يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حمأة. قيل: ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره، ولا يبعد أن يقال: لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر المحيط حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس، ومكن له في الأرض والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} الضمير في عندها إما للعين أو للشمس. قيل: هم قوم لباسهم جلود الوحش، وكانوا كفاراً، فخيّره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم، فقال: {إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} أي: إما أن تعذبهم بالقتل من أوّل الأمر، وإما أن تتخذ فيهم أمراً ذا حسن أو أمراً حسناً مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر، والمراد: دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع. {قَالَ} ذو القرنين مختاراً للدعوة التي هي الشق الأخير من الترديد {أَمَّا مَن ظَلَمَ} نفسه بالإصرار على الشرك ولم يقبل دعوتي {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} بالقتل في الدنيا {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ} في الآخرة {فَيْعَذّبُهُ} فيها {عَذَاباً نُّكْراً} أي: منكراً فظيعاً. قال الزجاج: خيّره الله بين الأمرين. قال النحاس: وردّ عليّ بن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبيّ فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عزّ وجل: {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ} وكيف يقول: {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} فيخاطبه بالنون، قال: والتقدير قلنا: يا محمد قالوا: يا ذا القرنين.
قال النحاس: وهذا الذي ذكره لا يلزم لجواز أن يكون الله عزّ وجلّ خاطبه على لسان نبيّ في وقته، وكأن ذا القرنين خاطب أولئك القوم فلا يلزم ما ذكره. ويمكن أن يكون مخاطباً للنبيّ الذي خاطبه الله على لسانه، أو خاطب قومه الذين وصل بهم إلى ذلك الموضع. قال ثعلب: إن في قوله: {إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ} في موضع نصب، ولو رفعت لكان صواباً بمعنى فأما هو كقول الشاعر:
فسيروا فإما حاجة تقضيانها *** وإما مقيل صالح وصديق
{وَأَمَّا مَنْ امَنَ} بالله وصدّق دعوتي {وَعَمِلَ} عملاً {صالحا} مما يقتضيه الإيمان {فَلَهُ جَزَاء الحسنى} قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم وابن كثير وابن عامر: {فله جزاء} بالرفع على الابتداء أي: جزاء الخصلة الحسنى عند الله، أو الفعلة الحسنى وهي الجنة قاله الفراء. وإضافة الجزاء إلى الحسنى التي هي الجنة كإضافة حق اليقين ودار الآخرة، ويجوز أن يكون هذا الجزاء من ذي القرنين أي: أعطيه وأتفضل عليه، وقرأ سائر الكوفيين {فله جزاء الحسنى} بنصب {جزاء} وتنوينه. قال الفراء: انتصابه على التمييز.
وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال أي مجزياً بها جزاءً. وقرأ ابن عباس ومسروق بنصب {جزاء} من غير تنوين. قال أبو حاتم: هي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين. قال النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين. وقرئ برفع: {جزاء} منوّناً على أنه مبتدأ، و{الحسنى} بدل منه والخبر الجارّ والمجرور {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أي: مما نأمر به قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق، أو أطلق عليه المصدر مبالغة. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي: طريقاً آخر غير الطريق الأولى وهي التي رجع بها من المغرب وسار فيها إلى المشرق {حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس} أي: الموضع الذي تطلع عليه الشمس أوّلاً من معمور الأرض، أو مكان طلوعها لعدم المانع شرعاً ولا عقلاً من وصوله إليه كما أوضحناه فيما سبق {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً} يسترهم، لا من البيوت ولا من اللباس، بل هم حفاة عراة لا يأوون إلى شيء من العمارة. قيل: لأنهم بأرض لا يمكن أن يستقرّ عليها البناء {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} أي: كذلك أمر ذي القرنين أتبع هذه الأسباب حتى بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به؛ وقيل: المعنى لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب، وقيل: المعنى كذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها، وقيل: المعنى كذلك تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، فقضي في هؤلاء كما قضي في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين، ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه الوجوه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأوّل.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: قالت اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين، إنك سمعت ذكرهم منا، فأخبرنا عن نبيّ لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال: «ومن هو»؟ قالوا: ذو القرنين، قال: «ما بلغني عنه شيء»، فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين}.
وأخرج عبد الرزاق، ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أدري أتبع كان نبياً أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟»، وأخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل عليّ عن ذي القرنين أنبيّ هو؟ قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «هو عبد ناصح الله فنصحه».
وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، وابن أبي عاصم في السنة، وابن مردويه من طريق أبي الطفيل: أن ابن الكواء سأل عليّ بن أبي طالب عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولكن كان عبداً صالحاً أحبّ الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه فمات، ثم أحياه الله لجهادهم، ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات، فأحياه الله لجهادهم، فلذلك سمي ذا القرنين، وإن فيكم مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عمرو قال: ذو القرنين نبيّ.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الأخرص بن حكيم، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: «هو ملك مسح الأرض بالأسباب».
وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن خالد بن معدان الكلاعي مرفوعاً مثله.
وأخرج ابن عبد الحكم، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب الأضداد، وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب: أنه سمع رجلاً ينادي بمنى يا ذا القرنين، فقال عمر: ها أنتم قد سمعتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة؟ وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه.
وقد أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر الجهني حديثاً يتضمن: أن نفراً من اليهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء، وكان فيما أخبرهم به: «أنه كان شاباً من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السدّ»، وإسناده ضعيف، وفي متنه نكارة، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى ابن جرير والأموي في مغازيه، ثم قال بعد ذلك: والعجب أن أبا زرعة الداري مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوّة، انتهى.
وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدرّ المنثور، وساق أيضاً خبراً طويلاً عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والشيرازي في الألقاب، وأبي الشيخ، وفيه أشياء منكرة جدّاً، وكذلك ذكر خبراً طويلاً عن محمد الباقر أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب، وقد أمرنا بأن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وآتيناه مِن كُلّ شَئ سَبَباً} قال: علماً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن أبي هلال: أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا، قال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله قال: {وآتيناه مِن كُلّ شَئ سَبَباً}.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاصر، أن ابن عباس ذكر له: أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف {تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَامِيَةً} قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: ما نقرؤها إلا {حمئة} فسأل معاوية عبد بن عمرو كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله: كما قرأتها، قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن، فأرسل إلى كعب، فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن أبي حاصر: لو أني عند كما أيدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عباس: وما هو؟ قلت: فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه:
قد كان ذو القرنين عمر مسلماً *** ملكاً تذلّ له الملوك وتحشد
فأتى المشارق والمغارب يبتغي *** أسباب ملك من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها *** في عين ذي خلب وثاط حرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم، قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة. قال: فما الحرمد؟ قلت: الأسود، فدعا ابن عباس غلاماً فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل.
وأخرج الترمذي، وأبو داود الطيالسي، وابن جرير، وابن المنذر عن أبيّ بن كعب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كان يقرأ: {فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ}».
وأخرج الطبراني، والحاكم، وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً مثله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5